ينشأ شرق أوسط جديد في الوقت الذي يتكشف فيه اتجاهان متناقضان لخفض التصعيد في الخليج وجولة جديدة من الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين في نفس الوقت.
وتقول زكية يازدانشيناس، وهي زميلة أبحاث أولى في مركز دراسات الشرق الأوسط الإستراتيجية في طهران، في تقرير نشره معهد الشرق الأوسط، إن هذا التحول يأتي بعد فترة من التدخل العسكري الأميركي المكثف في المنطقة، والانتفاضات المدنية الفاشلة للربيع العربي، وظهور داعش وتراجعه، وعدد من الصراعات المتواترة بالوكالة.
وفي حين اتخذت الجهات الفاعلة الإقليمية خطوات لتخفيف التوترات في السنوات الأخيرة – أعطت المملكة العربية السعودية الأولوية للتنمية الاقتصادية بناء على خطة رؤية 2030، وأعادت تركيا ضبط علاقاتها الثنائية مع دول مجلس التعاون الخليجي، وانتهى الحصار على قطر بعد إعلان قمة العلا عام 2021، وقطعت إسرائيل خطوات واسعة نحو التكامل الإقليمي من خلال اتفاقيات أبراهم ومحادثات التطبيع مع المملكة العربية السعودية، واستأنفت طهران والرياض العلاقات الدبلوماسية بعد توقف دام سبع سنوات – كانت هجمات السابع من أكتوبر بمثابة تذكير بأن المنطقة لن تتجاوز المخاوف الأمنية إلا بعد معالجة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
إيران تحاول أن تتنقل في موقفها تجاه خفض التصعيد الإقليمي والصراعات التي تتكشف في الشرق الأوسط
وفي الوقت نفسه، تحاول إيران أن تلعب أفضل أوراقها وتتنقل في موقفها تجاه خفض التصعيد الإقليمي والصراعات الجديدة التي تتكشف في الشرق الأوسط.
وتنظر إيران إلى الاتجاه الحالي لخفض التصعيد في الخليج باعتباره نتيجة لإنجازاتها الأمنية على مدى العقد الماضي. وتعتقد طهران أن دورها الإقليمي المحدد قد تم ترسيخه وإضفاء الشرعية عليه أخيرا، مما يوفر أرضا خصبة للمصالحة الإقليمية.
وكما ترى السلطات الإيرانية، فإن التطورات الإقليمية التي أعقبت الانتفاضات العربية جعلت إيران لاعبا جيوسياسيا مهيمنا في الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك، فإنها تعزو الميل المتزايد لدى المملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى لتحسين العلاقات مع إيران إلى قبولها لها باعتبارها لاعبا إقليميا لا غنى عنه.
وفي حديثه في برنامج تلفزيوني في وقت سابق من هذا العام، أكد محمد جمشيدي، نائب رئيس مكتب الرئيس إبراهيم رئيسي للشؤون السياسية، على إنجازات إيران في الشرق الأوسط على مدى العقد الماضي وأكد من جديد أن وضع التصعيد الحالي بين الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية والميل إلى أن التوجهات نحو التكامل تضرب بجذورها في سياسة إيران الإقليمية الناجحة وتأكيدها على موقف “المقاومة”.
ومنذ ثورة عام 1979، اعتبرت إيران نفسها لاعبا إقليميا رئيسيا تم استبعاده من نظام الشرق الأوسط الذي يتمحور حول الولايات المتحدة. ومع شعورها بالتهديد من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، تبنت إيران نهجا دفاعيا وأقامت عقيدتها الأمنية على درء التهديدات التي تهدد سلامة أراضيها وبقاء نظامها السياسي.
وخلقت انتفاضات الربيع العربي والانسحاب الأميركي من العراق في عام 2011 فرصة للقوى الإقليمية للحصول على قدر أكبر من المرونة والقدرة على المناورة.
واستغلت إيران ذلك لتبني نهجا أكثر هجومية بهدف توسيع نطاق نفوذها وقوتها في المنطقة. وكما ترى طهران، فإن جهودها قد أتت بثمارها، مما مكنها من تحقيق معظم أهدافها الأمنية المحددة. ونتيجة لذلك، فقد انتقلت من سلطة رجعية إلى قوة الوضع الراهن.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد ذلك هو كيف تتصور إيران مستقبل المنطقة بعد وقف التصعيد وكيف ترى تطور العلاقات الثنائية مع منافسيها الإقليميين، وخاصة المملكة العربية السعودية.
ويمكن العثور على الإجابة من خلال قراءة ما بين سطور خطاب الرئيس رئيسي في سبتمبر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. باختصار، ترى إيران أن الاستقرار الأمني والتنمية الاقتصادية في جميع أنحاء المنطقة متشابكان. وعلى حد تعبير رئيسي، يعتمد استقرار الأمن في الشرق الأوسط على التعاون الاقتصادي الهادف بين الجهات الفاعلة الإقليمية والتنمية الجماعية. وإيران، التي تدرك جيدًا حقيقة أن المملكة العربية السعودية تعمل على تعزيز استقلالها الأمني وتنويع خيارات سياستها الخارجية، ليست مستعدة لمجرد تمهيد الطريق أمام الرياض لدفع أجندتها التنموية. وإذا أدركت إيران أن خصمها يستفيد أكثر من هذا الاتجاه الجديد لخفض التصعيد، فقد تختار عكسه.
كما ساعدت الحرب الحالية في الشرق الأوسط على منح إيران المزيد من الخيارات. وبالتالي، فإن توسيع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف يمكن أن يساعد في الحفاظ على إمكانية تحقيق السلام والاستقرار.
وفي حين أن تغيير أنماط الصداقة والعداء القائمة منذ فترة طويلة ليس بالأمر السهل، فإن نزع الأمن الإقليمي يشكل شرطا أساسيا لاستمرار التصعيد في الخليج.
وبوسع القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين أن تلعب دورا بناء في تحقيق الاستقرار في المنطقة.
وقد أعلن المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي علنا أن إيران لم تكن متورطة في هجمات حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، ودعا صناع القرار الإيرانيون إلى وقف عاجل لإطلاق النار في غزة. إلا أن حرب غزة قدمت لإيران فرصة كبيرة لحماية إنجازاتها الإقليمية والسعي إلى تحقيق أهداف جديدة.
وأثبتت الحرب اعتقاد إيران بأن تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل لا يؤدي إلى الأمن والاستقرار الإقليميين، بل يؤدي إلى عدم الاستقرار والفوضى.
طهران تعتقد أن دورها الإقليمي المحدد قد تم ترسيخه وإضفاء الشرعية عليه أخيرا، مما يوفر أرضا خصبة للمصالحة الإقليمية
وشكلت هذه الهجمات تحديات داخلية عديدة لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مما جعل من الصعب عليها البقاء في السلطة.
وعلى الرغم من إنكار إيران القوي لتورطها في الصراع، فإن دورها المحوري في “محور المقاومة” أثبت عدم إمكانية الاستغناء عنها بالنسبة للقوى الخارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة. لقد أظهر هذا الوضع الفوضوي للقوى الإقليمية والعالمية أنه من غير الممكن إعادة تعريف النظام الإقليمي دون إشراك إيران.
وفي الوقت الراهن، فإن مستقبل الحرب في غزة غير واضح. وفقًا لرويترز، قال آية الله خامنئي، في اجتماع مع زعيم حماس إسماعيل هنية في أوائل نوفمبر، إن إيران لن تتدخل بشكل مباشر في الصراع نيابة عن حماس، لأن إيران لم تتلق تحذيرا مسبقا بشأن هجمات السابع من أكتوبر. ومع ذلك، أكد خامنئي على دعم إيران السياسي والمعنوي الثابت لحماس، وأكد مجددًا أن إيران لن تتدخل إلا إذا تعرضت لهجوم مباشر من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من هذا الموقف، فقد زود الصراع إيران بعدد من أوراق المساومة المهمة. وبالنظر إلى نفوذها على شبكة محور المقاومة، تلعب إيران دورا رئيسيا في توسيع نطاق الحرب أو الحد منه. وبوسعها أن تعمل كوسيط غير رسمي لتسهيل وقف إطلاق النار أو تبادل الأسرى، كما فعلت مع إطلاق سراح 23 رهينة تايلاندية في أواخر نوفمبر، عندما توسطت بين حماس والمسؤولين التايلانديين.
وعلاوة على ذلك، ينظر مواطنو الدول العربية إلى الوضع في غزة بشكل مختلف عن نظر النخب الحاكمة. وتؤدي هذه الفجوة أيضًا إلى تفاقم التحديات التي تواجه دول الخليج العربي للالتزام باتفاقيات أبراهم ووظيفتها المتمثلة في تحقيق التوازن المناهض لإيران.
وتكيفت إيران، التي كانت منبوذة في النظام الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ ثورة 1979، لتحقيق مصالحها الأمنية وسط الفوضى والأزمات الإقليمية. وبينما تدعم طهران إنشاء آلية أمنية إقليمية محلية، فإنها تدرك أن الولايات المتحدة لن تنسحب بالكامل من الشرق الأوسط في المستقبل القريب، وتدرك أن دول الخليج تسعى أيضًا إلى توسيع علاقاتها الأمنية مع واشنطن. ونتيجة لذلك، تنظر إيران إلى الصراعات الجيوسياسية والأمنية في المنطقة باعتبارها فرصة لدعم موقفها والاستفادة منه لتعزيز مصالحها الوطنية المحددة.