“مُلتقى التَّعرف على الفكر الإسلامي”، الذي احتضنته الجزائر على مدى أكثر من عشرين طبعةً، من سنة 1968 إلى سنة 1987، كان من أهمِّ المُلتقيات العالميَّة التي كانت تُنظَّم سنويًّا، وعملتْ على “حوار الحضارات” وتقريب الأفكار من خلال استضافة المُفكَّرين والباحثين والمُستشرقين من مُختلف قرَّات العالم على اختلاف توجَّهاتهم ومذاهبهم الفكريَّة والإيديولوجية.
هذا المُلتقى الفريد حوَّل الجزائرَ إلى مركزِ إشعاعٍ فكريٍّ وثقافيٍّ عِلميٍّ وروحيٍّ، لم يُضاهِيه مُلتقى آخر في العالم من حيثُ قوَّةٍ تَنْظيمه، وتنوُّع موضوعاته، واستقطابه لأكْبر المُفكِّرين العالميِّين. ومن أهمِّ الأهداف التي سعى إليها، انفتاح الأمة العربية والإسلاميَّةُ على العالِم، مع المُحافظة على الرُّوح الإسلاميَّة بكل موروثها الحضاري وقِيَمها الإنسانيَّة.
تُشير بعض المصار إلى أنَّ “مُلتقى التَّعرف على الفكر الإسلامي” كان امتدادًا للملتقى الأسبوعي الذي كان يعقده المُفكِّر “مالك بن نبي” في بيته، ويحضره نُخبة من طُلاَّبه ومُريده، وذلك منذ عام 1966. وقد انعقد المُلتقى، في طبعاته الثلاثة الأولى بالجزائر العاصمة، ولكن بعد أنْ تبنَّته الحكومة الجزائرية وصارتْ تُشرف عليه وزارة الشؤون الدينيَّة والأوقاف، صار يُعقدُ عبر مُختلف المُدن الجزائرية في الشمال والجنوب والشَّرق والغرب، وكان يحضرُه حتى طُلاَّب مرحلة التَّعليم الثانوي. ويُذكَر أنَّ المُلتقى كان يدومُ أكثر من أسبوعٍ، ويتضمَّنُ برنامجه، بالإضافة إلى نشاطاته الفكرية، نشاطاتٍ أخرى بإقامة رحلاتٍ سياحيَّة إلى المناطق الأثريَّة والتَّاريخيَّة..
الدكتور “مانفرید فلایشهامر” مُستشرِقٌ ألمانيٌّ شارك في الطَّبعة السادسة من “مُلتقى التَّعرف على الفكر الإسلامي” الذي انعقدَ في “بجاية”. وتمثَّلت مشاركة “فلایشهامر” في محاضرة بعنوان: “عرض تاريخ وثقافة الإسلام في مؤلفات كارل بروكلمان ويوهان فوك”. وقد كان المُلتقى مناسبةً لإجراء حوارٍ مع هذا المُستشرق الألماني، حيث تحدَّث عن دوْر الاستشراق في فهْم العقل العربي، واستشراف مستقبل الدُّول العربية، وواقع المخطوطات العربيَّة الموجودة في مكتبات ألمانيا، وكذا قضيَّة استرجاع هذه المخطوطات التي يُمكن أن يتمَّ التَّلاعب بها وتحرفيها واستثمارها ضدَّ الإسلام والأمة الإسلامية. أجرى الحوارَ “عاطف يونس”، ونعيدُ نشرَه نقلاً عن مجلة “الأصالة” الصَّادرة في الأوَّل من شهر ماي 1974.
الدكتور “مانفريد فلايشهامر” مستشرقٌ ألمانيٌّ شاركَ أكثر مِن مرَّةٍ في ملتقيات الفكر الإسلامي التي تُعقَد سنوِيًّا في الجزائر، وهو من مواليد مدينة “ماغديبورغ” عام 1928 وفيها تلقَّى علومَه الابتدائية والثانوية، ثم تابع دراستَه العالمِيَّة في قِسم علوم الشرق والعصور القديمة بجامعة “هالة” في ألمانيا، حيث تَتلمَذ على المستشرقيْن المعروفيْن: كارل بروكلمان، يوهان فوك. وحصل على الماجستير بأطروحةٍ حول مَخطوط “مشاهير علماء الأمْصار” لابن حبان البستي. وقد طُبِعتْ أطروحتَه هذه في القاهرة عام 1955. ثم نالَ الدُّكتوراه العُليا عام 1966، وكان موضوع الأطروحة حول مصادر كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. وإضافةً إلى هذيْن البَحثيْن، فقد حقَّق الدكتور “مانفريد” كتابًا حول قواعد اللغة العربية للأستاذ “بروكلمان. وله إلى جانب ذلك عدَّة مقالاتٍ وتَراجُمٍ للأدب العربي الحديث في المجلات العلمية.
اتَّضح لنا، من خلال مشاركة الدكتور “مانفرید فلایشهامر” في ملتقى “بجاية”، أنَّه مُتمكِّنٌ إلى حدٍّ ما من اللغة العربية، إلى جانب إتقانه للإنجليزية والفرنسية. وفى لقائنا السريع معه، أثرْنا جُمْلةً من المسائل الفكرية، مِمَّا يهمُّ القارىءَ العربي، ولم نكن نتوقَّع أنْ يكون هذا المستشرق الألماني على هذا القَدْر من الحِيطة والتَّحفُّظ في الرَّد على أسئلة ليستْ بِذاتِ طابعٍ سياسيًّ.
– بأيّ دافعٍ اتَّجهْتم إلى اللغة العربية، وما هو تَقْيِيمكم لها على ضوء ما تعرفونه من لغات أخرى؟
– الحقيقةُ، لم يكن لديَّ دافعُ مُعَيَّنٌ، وربما كان لقائي بالعربية من باب الصدفة! وقد بدأتْ صِلتي باللغات السَّامية بتعلم اللغة العبرية لقراءة
التوراة!
– (مقاطعة) هل أنت مسيحي أمْ يهودي؟
– (بشيءٍ من الارتباك) أنا مسيحي! أمَّا بخصوص العربية، فقد اتَّجهتُ إليها بعد الدراسة الثانوية، وهي لغةٌ غنِيَّةٌ بمفرداتها ومعانيها، ومعلومٌ أنها كانت في العصور الوسطى لغةً علمِيَّةً، تُعبِّر عن كلِّ التَّصوُّرات والأفكار العلمية الموجودة في ذلك الوقت.. عرفتُ هذا من خلال علاقتي واشتغالي بهذه اللغة.. أمَّا الآن، فقد وجدتُ من خلال الكتب والصحف العربية أنَّ اللغةَ العربية يمكن أنْ تكون في الوقت الحاضر لغةً علمِيَّةً، تستوعب كل الاحتياجات العلمية والتقنية الحديثة، ولكني أعتقدُ أنَّ هناك بعض المشكلات، كتوحيد المصطلحات العلمية، وهذا مطلبٌ واحتياجٌ أساسي في كل عِلمٍ. وأرى ما يراه الكثيرون من علمائكم أنَّ العربية تقتضي توحيد وتثبيت الجهاز الاصطلاحي، لسَدِّ الاحتياجات العلمية. فنحن نلاحظ أنَّ اللغات العالمية تتوفَّر على ثروة من المصطلحات المُوحَّدة والثابتة. اللغة أداة تفاهُمٍ في الدرجة الأولى، ومن واجب أصحاب العربية أنْ يتعاملوا بصورة دقيقة! وأرى أنَّ العربيةَ قادرةٌ على أنْ تستعيد مكانتَها في الحضارة والعلوم.
– بِوَصْفكم مُستشرِقًا، كيف تنظرون إلى دَوْر المستشرقين بالنسبة إلى التُّراث العربي عامة، والتاريخ بصفة خاصة؟
– تختلف دوافع العلماء في الدراسة والبحث في شتَّى العلوم، ومنها العلوم الاجتماعية، ولا أستطيع أنْ أتحدَّث في هذا الموضوع بصفةٍ عامة، ولكن فيما يخصُّ أهداف المستشرقين في بلادنا فهي علميةٌ مَحضَةٌ، فنحن نحاول دراسةَ تراث العرب وتاريخهم لنَفْهم وَضْعهم الرَّاهن، ونسْتشرِف معالِمَ مستقبلهم!
– وما الذي توَصَّلتُم إليه في هذا السَّبيل؟
– كُلَّما أتيحتْ لي فرصةُ زيارة بعض الدول العربية، لَمَستُ تقدُّمًا في مختلف مجالات الحياة، وألْمَسُ محاولات جادَّةٍ للنُّهوض في كل المجالات العلمية والفنية، وعلى سبيل المثال، فقد زرتُ الجزائرَ مرَّتيْن، وها أنا اليوم من خلال المتابعة والمشاهَدة، ألاحظُ أنَّ الشعبَ الجزائري يواصِل السَّيْر بكلِّ جِدٍّ ونشاط في هذا الاتجاه، وأحِبُّ أنْ أؤكِّد لكم أنَّ الشعب في ألمانيا – لا العلماء وَحدهم، يتابعُ ما يحدث في الجزائر بكل اهتمام وإعجاب.. وهذا يؤكد أنَّ العربَ يتقدَّمون حَثيثًا في سبيل ازدهارٍ جديدٍ لحضارتهم وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
– شكرًا، وأرجو ألاَّ يكون قوْلكم هذا من باب المُجاملة!
– (ضحكَ) لا، لا.. أنا لا أُصانِعُكم، وما قلتُه هو ما أعتقِدُه فِعلاً. فالملتقى مثلاً، أكد لنا أنَّ العربَ يعرفون مشاكلهم ويرغبون في حلِّها سريعًا، ولكن المُهمَّ أنَّكم تعون مشاكلكم وتستعِدُّون لحلِّها.. وقد لا يأتي الحلُّ.
– تعرفون بلا ريْب أنَّ مِقدارًا واسعًا من المخطوطات العربية مُوزَّعٌ بين متاحف أوروبا ومكتباتها العامة والخاصة. فما هي نظرتكم إلى هذه القضية؟
– لا نستطيع أنْ نناقش ما إذا كان مِن اللاَّزم إعادة هذه الذَّخائر الموجودة في مكتبات العالم كلِّه، عِلمًا بأنَّ طُرُق ووسائل الحصول على هذه المخطوطات مختلفة جدًّا.. فبعضُها تمَّ عن طريق الشِّراء أو المُبادلة، وهي في بعض المكتبات موجودةٌ منذ زمنٍ قديم. وكان المستشرقون في أوروبا والعالم يشتغلون بها منذ زمن بعيد، فيدرسونها ويفهرسونها ويحقِّقونها وينشرونها، ويعتبر هؤلاء العلماء أنَّ المخطوطات العربية التي في حوزتهم جزءٌ من ذخائرهم القّيِّمة.
وأنا لا أرى في ذلك مشكلة! فقد جرتْ العادةُ على السَّماح لكلِّ باحثٍ أنْ يستعين بما شاء من هذه المخطوطات، كما يسمح أيضًا بتصويرها وجمْعها عن طريق الميكروفيلم. وأذكرُ لكم على سبيل المثال أنَّ مكتبة “غوتا” بألمانيا، قد قامتْ بإرسال مُصَوَّراتٍ للكثير من المَخطوطات التي طلَب العلماءُ العرب الاستعانةَ بها.
– ولكن يا دكتور، ما الذي يضمن لنا أنْ لا تمتدَّ يدُ التَّغيير أو التَّشويه إلى هذه المخطوطات، خاصَّةً وأنَّ مَواقف الأوروبيين من العرب ليست في كل الحالات مُطمْئِنَة؟!
– لا أستطيع الإفتاءَ في هذه المشكلة! ولكن ثِقوا بأنَّ لا خُطورةَ على مخطوطاتكم في بلدي، أمَّا البلاد الأخرى فالله أعلم!
– وأخيرًا، ما هو الانطباعُ الذي ستعودون به إلى بلادكم؟
– فيما يخصُّ المُلتقى، فقد اشتركتُ قَبْل هذه المرَّة، في الملتقى السادس. ولاحظتُ أنَّ مُلتقى “بجاية” يمتاز بالانفتاح على مختلف الآراء والاتجاهات الإسلامية وغير الإسلامية، ولذلك فإنِّني أرى أنَّ هذه الملتقيات تلعبُ دوْرًا هامًّا في شرْح المُشكلات المَطروحة. أمَّا بالنسبة إلى الجزائر، فلقد اسْتُقبِلنا في المرَّتيْن بكل حفاوةٍ وكرَمٍ، ونحن نشكر الجزائر على هذا الاستقبال، وسننقله إلى شعبنا بكل اعتزاز.